كان البدر مطلاً على الطريق، كمصباح يتيم، تتراقص تحته ظلال الأشجار. كانت سيارته رفيقته الوحيدة، يعتني بها و تعتني به. مثل هذا الهدوء، هو نشوتهما الوحيدة، يحب أن يسمع صوت محركها يتضاخم في هذا الفراغ، متعته الوحيدة و هو يرى سرعته تتزايد، حتى أنه يتخيل أنه لم يعد يسير على هذه الأرض.
لم يجد الطبيب مراجعة ملفات المرضى شيئاً صعباً، فتلك الليلة هادئة تماماً، عدا ذلك المريض الذي حاول الانتحار، دائماً ما تعجب كيف يُمكن لإنسان أن يُقدم على ذلك. تعالت صافرة سيارة الإسعاف، منذرةً عن مريض جديد، و مهمة جديدة. "حادثة عربية عالطريق الزراعي" صاح المسعف مستنجداً بالطبيب. أمسك يده لتحسس النبض، قبض الشاب على يده، و نظر إليه الطبيب يخبره أن لا يخاف.
لم يكن القطار ممتعاً كتلك القطارات في قصص أمها، كما أن الرصيف مزدحم بأناس كثيرين. أفزعها شخص يقترب منهم، شدت ثوب أمها، و اختبأت خلفها.
وجبة غذاء من الجدة الحنونة، و أحاديث مملة – كما تراها – دفعت الجميع للرحيل أو النوم، لكن طفلة في الرابعة من عمرها لم تنم بعد، تسللت من سريرها كنسمة صيف خفيفة، و كما يبحث النحل عن الرحيق، بحثت حتى وجدت متعتها الوحيدة مخبئة في ذلك المكتب العتيق.
لم يجد الطبيب مراجعة ملفات المرضى شيئاً صعباً، فتلك الليلة هادئة تماماً، عدا ذلك المريض الذي حاول الانتحار، دائماً ما تعجب كيف يُمكن لإنسان أن يُقدم على ذلك. تعالت صافرة سيارة الإسعاف، منذرةً عن مريض جديد، و مهمة جديدة. "حادثة عربية عالطريق الزراعي" صاح المسعف مستنجداً بالطبيب. أمسك يده لتحسس النبض، قبض الشاب على يده، و نظر إليه الطبيب يخبره أن لا يخاف.
في ركن الغرفة الهادئ، حيث اعتادت قراءة الجرائد و كتبها المختلفة في مقعدها الكبير، تحت المصباح الذي ورثته من أبيها، نظرت الجدة لحفيدتها بعمق، و هي تتعجب كيف ورثت عن أمها جمال و براءة عينيها. "مش أنا" أجابت على سؤال جدتها بخجل. لم تكن جدتها لتسمح بأن تكذب من أجل قطعة "شيكولاتة"، فما كان منها إلا أن أمسكت أذنها لتعاقبها، مع أن هذا آلم كلتاهما.
أمسكت يده و عينيها تملؤها دموع متساقطة، يومان و هو غائب عن الوعي، و قلبها ينفطر في كل دقيقة ألف مرة، لم تغادره منذ جاءت إلى المستشفى. حدثته كيف هو كل حياتها، فقد آمنت يقيناً بأنه يسمعها، "يا رب ، ابني يا رب، أنت الشافي و الرحيم"، شعرت بيده تقبض على يدها مع كل دعاء، و كأنه يدعي معها.
مسكت أذنها في ألم و غضب، و توجهت إلى أمها باكيةً، و الكلمات تخرج متقطعة بين بكاء و صراخ. ضمتها إليها بحنان، و قبلت أذنها المتألمة. هدأت و ضحكت، و لم تعرف هل ذهب الألم حقاً، أم أن هناك سحر خاص تمتلكه والدتها.
اختارت والدته الإسكندرية، لهدوئها في هذا الوقت من العام، لقضاء فترة نقاهة قصيرة. رغم خسارته الكبيرة، أصر على أن يرى مكان الحادث و يرى سيارته، أو ما بقي من معالمها. كانت الإسكندرية تودع خريف هادئ، و رياح شتاء بارد تلوح من خلف الأمواج. كان البحر رفيق هامس، يحكي له كيف كانت حياته، و كيف تغيرت للأبد. رد البحر في تعجب، لِمَ يفكر في حياته فقط، لِمَ لا يفكر في أمه التي انفطر قلبها، في أصدقائه – الحقيقيين – الذين رابطوا بجوار غرفته طوال مرضه، كيف له أن لا يفكر في الحياة التي تنتظره.
بعد أجازة أسبوعين، حان وقت العودة إلى القاهرة. طبيعة عملها أجبرتها على الابتعاد عن موطنها، و الاستقرار مع زوجها في القاهرة. في كل مرة تسافر إلى الإسكندرية، تشعر بنفسها صبية من جديد، كم تمنت أن تنشأ ابنتها بين تلك البيوت و الشوارع القديمة، التي طالما احتضنت أطيافاً من المصريين. كم انزعجت بتلك "التطويرات" التي طالت محطة "سيدي جابر"، فتراها كارثة ضربت تاريخ المكان و شوهت صورتها.
لم يكن القطار ممتعاً كتلك القطارات في قصص أمها، كما أن الرصيف مزدحم بأناس كثيرين. أفزعها شخص يقترب منهم، شدت ثوب أمها، و اختبأت خلفها.
لم يعتد بعد على العكازين، كما لم يعتد على تلك النظرات المشفقة و همز الناس، كلما مر بجوارهم. لكن فتاة صغيرة لفتت نظره هو، كانت تبدو كمن رأى شعباً أمامه.
- ماما الراجل الكداب بيقرب مننا.
نظرت الأم بتعجب لابنتها، و رأت نظرة الرعب في عينيها، ثم نظرت إلى حيث أشارت ابنتها، إلى ذلك الشاب ذو الرجل المبتورة و العكازين، الذي انتبه لحوارهما في تعجب.
- انتي ليه قولتي عليه كداب؟
- تيتا قالتلي إن "الكدب مالوش رجلين"، لما قرصت وداني.
تعجبت الأم كيف تفكر طفلتها و تبسمت، و ضحك الشاب من براءة كلماتها.
محمد طاهر أمين
مــــــــحمد
ردحذفاول تعليق
احتلال .. استيطان زى ما تحب تسميه ويظهر ان النهارده يوم الاحتلال لكل المدونات
اقرا وارجع تانى ان شاء الله
زهـــــراء
محمد
ردحذفكنت مستغربه ليه البوست مش معاه صوره ولما قرات فهمت ان الكلام صعب يكون معها صوره تعبر عن جزء مما يحمل او حتى عن جمله واحده مما يحمله البوست
البوست صور متعدده وليس صوره واحده فقط
اكتر من رائع
زهــــــراء
محمد
ردحذف----------
ايه ده ؟؟؟؟
انت نقلتنى لجو خيالى ... مش عارفه اعلق
جو غريب عشت فيه اثناء قراءة تالك القصه التى تحمل بين طياتها قصتين معا
اشمعنى اسكندريه ؟؟ وعلى فكره هى مافيش فيها اى هدوووء لا خريف ولا شتا هلى على طوووووووووول زحمه
تعجبنى براءة الاطفال وكيفية التعبير عن مشاعرهم ومكنوناتهم بكل براءه غير منتبيهين للكثير والكثير من الاصور والقواعد والواجبات وما يصح وما لا يصح ...
اكيد فى اجزاء عجبتنى بشده ومش لاقيه تعليق عليها وفى اجزاء ايضا محتاج اقول عليها تعليق رغم معرفتى انه لا يليق بها
" رد البحر في تعجب، لِمَ يفكر في حياته فقط .... " توقفت كثيرا امام هذه الجمله وحال الشاب الذى فقد جزء من جسده وجزء مهم لا يستطيع ان يتأقلم مع حياته الجديده بكل سهوله ولكن دفعتنى الجمله الى التفكير اننا هكذا بنى الانسان حينما نصا بمكروه فى انفسنا او مالنا او اجسادنا لا نتذكر اى شئ سوى نحن فقط وننسى ان هناك من يهتم بأمرنا ويقف معنا ويرفع اكف الضراعه الى الله ويدعو لنا ليلا نهارا بدون انتظار اى مقابل منا هناك من الاهل والاصدقاء الذين ننساهم حينما تهم بنا كارثه او مشكله .. ننظر عادة تحت اقدامنا ولا ننظر الى ما هو قادم من بعيد .. لا ننظر الى حكمة الخالق مما حدث لنا ...
بالنسبه بقى لما يحدث فى محطة سيدى جابر بيقال انه سوف ينتهى فى غضون اسابيع قليله قادمه وبكل صراحه انا مش متخيله منظر المحطه هيكون ازاى لان بالفعل هذه المحطه تحمل الكثير والكثير من الذكريات لكثير من البشر وهى تعتبر حاجه كده زى التراث مافيش فيلم اتصور هنا غير وكان لازم يكون فى مشهد على الاقل فى محطة سيدى جابر " معلش بقى سكندريه ولازم اتكلم على حال بلدى حبيبتى "
عجبنى ختام القصه ان الشاب ضحك لانه بهذا قد تغلب على عجزه وتشارك مع الطفله فى تخيلها
لو قولت لك رائعه يبقى ظلمتك
لو قولت انى عطلت الغدا وانا جعااااااااااانه جدا لان القصه تحفه بجد يبقى برضه مش عارفه اوصف لك الحاله اللى القصه حطتنى فيها
تسلم الايادى يا محمد
ربنا يحفظك ويكرمك
زهــــراء
مسكت أذنها في ألم و غضب، و توجهت إلى أمها باكيةً، و الكلمات تخرج متقطعة بين بكاء و صراخ. ضمتها إليها بحنان، و قبلت أذنها المتألمة. هدأت و ضحكت، و لم تعرف هل ذهب الألم حقاً، أم أن هناك سحر خاص تمتلكه والدتها.
ردحذف" اجمل جزء قرأته وحبيته حنان الام وضمتها ولمستها السحرية لاختفاء الالم ياه على جمال الوصف الرائع تسلم ايدك "
لولا
بالنسبة لاسكندرية انا بعشقها في كي الاحوال والظروف
ردحذفوبعشق البحر وبخاف منه
وبحب محطة سيدي جابر لانها كانت اول لقاء يجمعني انا وزهرة وخايفة تتغير ملامحها عن اخر مرة شوفتها فيها .
لولا
محمد انا شايفة الصورة دي مناسبة للجزء اللي اتكلمت عنه
ردحذفhttp://n4hr.com/up/uploads/1b2de15e6e.jpg
لولا
كلمات عبارات اقاصيص لااعرف ماذا اقول عنها
ردحذفمن كثر اعجابي بها لااعرف ان اصفها
اخذتي لعالم ثاني كأنيي انا كنت بينهم واراء الاحداث امامي
بجد قصاص قصاص
والله من اعاجبي بها اريد اقول واقول واقول
بس مش لاقيه الكلام الي انا اريد اقوله
تقبل مروري ^_^
سلامي ليك اخي محمد.
قصة جميلة تحمل معانى رائعة حنان وحب وبراءة
ردحذفوطفولة
تحياتى لما طرح قلمك الجميل
مجموعة رائعة لصور مختلفة وسكنات وحركات وتعبيرات وكلمات في منتهي الروعة رواية متكاملة الاركان
ردحذفتحياتي ليك ياصديقي علي قدرتك في تستلسل الاجداث
تقديري واحترامي
زهراء..
ردحذفمرحبا بكل المحتلين..اللي هما أساساً أصحاب مكان :)
تحياتي
محمد
:)
زهراء..
ردحذففعلاً عجزت عن اختيار صورة أو صور.. أنا في دماغي العديد من الأفكار لكن لقيت صعوبة في البحث عنها.. أتمنى أن المعنى يكون وصل من الكلام فقط..
تحياتي
محمد
:)
زهراء..
ردحذفأتمنى أن تكوني استمعتي بالتنقل بين أجزاء القصة..
آخر زيارتين لي لمدينة الإسكندرية.. من 3 أعوام في ازدحام الصيف .. و الأخيرة من عام و نصف في أواخر الخريف.. و كزائر للمدينة لاحظت الفرق بين الموسمين..
براءة الأطفال.. هيا سحرهم الخاص.. و دائماً ما كانت مصدر إلهام لكل أنواع البشر.. و لعلها هي ما تعلمهم كيف هي الحياة بسؤالهم عن كل شيء حولهم..
الابتلاء بالمصائب هو أحد حكم الله في خلقه.. فهو ليس فقط للجزاء في الآخرة.. بل هو درس للمبتلى و لمن حوله من الناس..
محطة "سيدي جابر".. لابد من أي زائر أن يبدي إعجابه بها.. في زيارتي الأخيرة.. ما رأيته هو تدمير للمحطة.. و ساءني ما يحدث بها..
بالنسبة للغدا.. يارب تكوني لحقتيه قبل ما يبرد :)
شكراً على ردك.. و على تشجيعك الدائم..
تحياتي
محمد
:)
لولا..
ردحذفالأم هي مصدر الحنان.. و خاصةً مع الأطفال.. أتمنى أن أكون وُفقت في وصف تلك المشاعر..
تحياتي
محمد
:)
لولا..
ردحذفأنا كذلك.. أعشق البحر.. لكن له رهبة تناديك أن تحذر.. و لعل البحر هو من يستنكر زواره.. و يرحب بأهله و عشاقه..
أنا فعلاً حزين على محطة "سيدي جابر".. و أتمنى أن تعود كما كانت..
شكراً ليكي.. و لردودك المتألقة..
تحياتي
محمد
:)
لولا..
ردحذفأشكرك على الصورة الرائعة و المعبرة.. لكني سأكتفي بعدم وضع أي صور.. و ربما استخدمها في عمل آخر..
ذوقك عالي جدا في اختيارك.. و يدل على إحساس رائع..
تحياتي
محمد
:)
خواطري مع الحياة..
ردحذفأهلا بيكي دوماً.. أتمنى أكون أسعدتك تلك الكلمات..
و ردك كفاية عليا.. و الكلام بيبان من عنوانه :)
تحياتي
محمد
:)
هبة فاروق..
ردحذفشرفتيني في المدونة.. أسعدني أن تخرج كل تلك المعاني من بين كلمات بسيطة..
تحياتي
محمد
:)
سندباد..
ردحذفكلماتك افتخر بها جدا.. و أشكرك لأنك قتلت ظنوني بأن تكون الأحداث معقدة في الترتيب..
تحياتي
محمد
:)
قصص انسانيه واقعيه
ردحذفاجمعتها كلها في بوست
رائع تحمل واقع يحدث
كل يوم وقد تحدث كلها
في آن واحد
كارولين فاروق..
ردحذفشكراً لردك.. و أتمنى أنها تكون عجبتك..
تحياتي
محمد
:)
محمد اشكرك على كل كلامك
ردحذف...بس انا محطتش الصورة عشان تحطها عندك على القصة وربنا ابداً انا قصدت ان الصورة دي حسستني بكلام القصة
لولا
مهاجر مسائك خير وزيادة
ردحذفرائعة بكل تفاصيلها تلك الحكاية ولا أعلم السر العجيب الذي جذبني فيها تفاصيلها ، بساطتها ، نهايتها ، وقبل ذلك كله محطاتها
كنت هنا وسأبقى فقلمك جميل يا مهاجر
تحياتي
لولا..
ردحذفأنا فهمت كده تماماً.. لكن حبيت أشكرك جداً على الصورة.. و حرصك على مساعدتي..
تحياتي
محمد
:)
ريبال بيهس..
ردحذفأهلا بك دائماً يا أخي.. أشكرك لكلماتك المشجعة.. بانتظارك مرة أخرى..
تحياتي
محمد
:)
السلام عليكم ،
ردحذفوااااااو ،
جد الكلمات والفكر والوصف والإبداع يخطف الأنفاس ولا يبقى شيئاً ليقال ..
ما شاء الله عليك مبدع بحق ،
دمت متميز ..
زهرة نيسان..
ردحذفشكراً لردك..
أهلا بعودتك.. و بانتظار كتاباتك دائماً..
تحياتي
محمد
:)
صباح الخير .،
ردحذفلينك المدونة الجديد ،
http://engmenna91.blogspot.com/
وفي انتظار جديدك عما قريب ..
زهرة نيسان..
ردحذفإن شاء أتابعك دائما.. و شكرا ليكي..
تحياتي
محمد
:)
الله عليك اخى
ردحذفاستمتعت بالجو الجميل بتاع المدونه
وعجبتنى اوى الكلمات
رائع ما خطه يداك
متشكره كتير لمرورك مدونتى
ودى ليا اول زياره
ومش هتكون الاخيرة
ايناس
أول زيارة عندك ... واكيد مش الاخيرة
ردحذفأسلوبك مميز وجديد... انا قرأت القصة مرتين , ومع اني لمحن العنوان ولكن لم ادرك فحواه
وعندما وصلت الى النقطة الفاصلة , عدت برأسي للوراء وابتسمت بسمة خفيفة ... وقلت في نفسي " عجبتني هذه الحبكة " فانتقالك بين جزأين أو قصتين يسير على نفس الخط رائع جداً ,
وكأنك صنعت قصة الشاب لتخدم على قصة الطفلة وبرائتها ... هذا رائع
ولكن كنت اتمنى انا يخدم كلا منهما على الأخر ... نعم انت استخلصت بتر قدمه التي سببتها حادثه لتخدم على فكرة البراءة ولكن كنت أقصد ان أجد قوة مزدوجة من كلا القصتين في اللحظة الفاصلة ... عموما اسجل اعجابي بالفكرة والاسلوب المميز الهادئ من نوعة ,,, وبالتاكيد تلك التجربة هي خطوة إلى تجربة اخرى اروع
....
اطلت عليك
ايناس..
ردحذفنورتي المدونة.. و يا رب تعجبك على طول..
تحياتي
محمد
:)
Hu-man..محمد..
ردحذفأهلاً بك في المدونة.. و أسرني مرورك..
فعلاً أنا صنعت قصة الشاب لتخدم قصة الطفلة و العنوان.. و أغفلته تماما في لحظة النهاية.. ربما ذلك لاهتمامي أن أظهر كيف أن الأطفال يفكرون..و أحياناً بعمق أكثر من الكبار..
مازلت أحاول أن أتقن ذلك الفن من الكتابة.. و أسعدتني نصيحتك جدا..
تحياتي
محمد
:)
تحفةةة يا محمد أنا ملاحظة أن أسلوبك بيزيد جمال وعذوبة
ردحذفwafaa farouk..
ردحذفمنوراني دايما يا وفاء.. يا رب تعجبك المدونة دايما..
تحياتي..
محمد
:)