٢٠١٠/١٢/٢٢

فنجان القصر


مع كل صباح، كانت تنبعث منه رائحة البُن الزكية، يُحمل مع كوب ماء إلى الشرفة الكبير بجوار الجرائد و النظارة. كان مخصصاً فقط لسيد القصر، يقضي بقية اليوم متوجاً مع باقي الفضيات، بعيداً عن عامة الفناجين، يحضر الاجتماعات نهاراً، و يتلألأ في أعين الأميرات مساءاً. تمضي الأيام، و يغادر القصر كما غادره أصحابه، و تناقلته الأيدي كهدية رخيصة، حتى وصل لصاحبه الجديد.

كانت المكتبة هي بيته الجديد، لم يرَ غيرها في هذا المنزل. كان صاحبه محباً للقراءة و كان من أكبر الكتاب، كان معظم يومه في مكتبه، يطالع معه الكتب، و يتعلم منه الكثير من حكم الزمان. لم يتباهى به أمام زواره القلائل، و كانت له جارة، مسبحة من الفضة أيضاً. و كما تعلم من الكتب و من الحياة، "دوام الحال من المحال"، بعد وفاة صاحبه، لم يرى ابنه الوحيد في تلك الجدران، سوى مبلغ من المال و كومة من الورق.

يبدو أنه يحتاج للتقاعد الآن. هكذا كان يشعر و هو معروض في الرف العلوي أفخم مقاهي البلدة. كان بمثابة الحكيم للفناجين الأخرى، فهو الأقدم هنا و كذلك الأغلى. لكنه لم يعتد هذه الضوضاء، و تلك النظرات المندهشة من قِدمه و تاريخه القديم. كل هذا لم يشفع له أن يتركه هذا الشاب المريب في شأنه، و قرر أن يسرقه ليلاً ليبادله بما "يكيّفه" أكثر من أي بُن في العالم.

لم يعد يرى غير الأقدام، في كل يوم يفترش مالكه الأرض ببضاعته، ما بين لوح خشبية و بعض الفضيات و كثير من الأدوات الزهيدة. كلها تركها الزمان لتختفي هنا، بين صخب النهار، و دخان السجائر، و نكهة العطارين، و بهجة السياح، هنا في أزقة "خان الخليلي". أصبح التراب هو محتواه بدلاً من البُن، و الشارع مسكنه بدلاً من القصر.


محمد طاهر أمين

٢٠١٠/١٢/١٢

تحت الطلب


يمسح عم علي عرقه من على جبينه، بينما يرقب الطريق الذي يسلكه كل مرةٍ يقود هذه العربة، لم يعد هذا الطريق بالنسبة له سوى عمل ممل، لا يتغير فيه سوى ذلك الشخص النائم خلفه و مرافقيه. 

هذه المرة كان برفقته شخصٌ واحد، و للأسف فإنه لن يستطيع أن يعرف منه أي شيء. إذاً، فلا مانع من أن يحادثه ليقطع هذا الصمت الذي دائماً ما يهرب منه عندما يطلبه. 

- يعني سابوك تيجي معايا لوحدك؟؟ متزعلش منهم، هما كده كده كانوا هيرجعوا من غيرك
- بس تعرف، الحق عليك برضه، ما هو مش معقول يسيبوا العربيات المكيفة و ييجوا يقعدوا معانا في الحر ده، كان لازم تستنى للشتا

لأول مرة يشعر عم علي بالأسى على مرافقه، و تمنى لو ينتهي الطريق، ليخلص كل منهما من معاناته. إنها المرة الأولى التي يكون وحده، و هو الآن يشعر فعلاً بالخوف، لأن أحداً لم يرد عليه. 

ظهرت بوابة الدخول من بعيد بأعمدتها المتهالكة، و ذلك الوفد الذي يراه كل مرة يستقبله كموكب أحد المسؤولين. بعد مسافة في الطرق المتعرجة، توقف عم علي أمام غايته، و بهره ما رأى، و قال لرفيقه :"ابسط يا عم، عاملينلك سور و زرع و كمان اوضة"

انتظر عم علي حتى ذهب رفيقه لداره الجديدة، و جاءه شاب يبدو الحزن على ثيابه فقط، "اتفضل يا عم علي، بارك الله فيك"

أدار عربته و توجه خارجاً، لكن لوحده؛ بدون مرافق و بدون موكب، ككل مرة، دائماً لوحده، هو و عربة "تحت الطلب" فقط.



============= 
ملاحظة : تحت الطلب ، هو تمييز يضاف على لوحات عربات نقل الموتى 
============= 


محمد طاهر أمين

٢٠١٠/١٢/٠٢

الغروب

 
 
بعيداً في بلاد الغربة، تلامس نسمات هواء باردة وجهها الرقيق، تغمض عينيها و تستنشق الهواء الجبلي البارد، هكذا اعتادت على رفقة أبيها، إلى هذا المنتزه كل أسبوع، شمس دافئة، مروج خضراء، تدفع الشباب في الدماء كما يقول أبوها.

كم كانت تذهلها الشمس وقت الغروب، تسطع نهاراً كاملاً، و فجأة يخبو نورها، و تتحول إلى لون برتقالي حزين، و قرص دائري، يبتلعه الجبل في هدوء شديد، و كأن الشمس عانت النهار كله، و استسلمت في نهايته للجبل.


كم يحمد الله على حياته هذه كل يوم، كل يوم يرى فيه نفسه، و يرى طفلته ذات الأربعة الأعوام، كم يعشق نظراتها تلك، و هي تسبح في ذلك الفضاء، بهدوء شديد تتغازل أطياف الشفق الحمراء مع بشرتها و ملامحها، لترسم آيةً في الإبداع.

شمس الغروب، تلك اللحظة المذهلة، دائما ما رأى في الغروب كل ما هو جميل، إنها تلك اللحظة التي يقف في العالم كله ليودع الشمس قبل الرحيل، على وعد منها بيوم جديد.

بالنسبة له.. هو يرى نفسه في الغروب، مهما كانت الشمس كبيرةً و قويةً، فهي تحتاج للراحة، تخبو من أجل أن تسطع، تغيب لتعلمنا أن هناك النور و كذلك يوجد الظلام.

الغروب.. هو دفتر ذكرياته الوحيد، أسمى لحظات الصفاء يصلها مع شعيرات الشفق الأخيرة، كم صارحته نفسه في هدوء، كيف كان يومه، و كيف يجب أن يكون غده، يتنفس بعمق ليشعر بالحياة من جديد، يغمض عينيه ليتخيل الشمس توصيه بالغد، ينصت لنداء الطيور و هي تودع الشمس باكية.


قررت أن تسأل أبيها؛ ماذا يوجد هناك؟ خلف هذا الجبل..أين تذهب الشمس؟ما الذي يوجد هناك لتذهب له؟ ضحك بحنانٍ من سؤالها، و شرح لها أن الشمس تدور لتيقظ أناساً آخرين، و تدعوهم إلى العمل من أجل أن يحيوا، و تتركنا من أجل أن نستريح في هدوء الليل.

- و الشمس هتروح مصر دلوقتي؟؟
- اكيد لازم تروح مصر.. كل حتة في الدنيا فيها شروق و غروب..
- و الغروب في مصر زي هنا؟؟


فيضٌ من الذكريات تدفق مع هذا السؤال، كان الغروب كل يوم مغامرةً جديدة..

في مدينته الصغيرة، تذوب الشمس في آخر كل نهار في مياه النيل الهادئة، لم يعرف يوماً أيهما أجمل، النيل و أنت ترى الحياة على ضفافه، و الناس حوله كأنه شمسهم، أم الشمس و هي تنير كل يوم دروب الخيرات، و يتلاهف الناس لضوءها، لم يعرف لأيهما كان يكتب، للنيل وقت الغروب أم لغروب الشمس في أحضان النيل، كلاهما كان مصدر إلهامه.

و حتى بعيدا عن النيل، نسمات البحر المالحة تعطي الغروب طعماً خاصاً، البحر كله يتحرك لوداع الشمس، يضطرب لغيابها، و ترثيها الأمواج في الليل كله. في أوقات الشتاء، كلما احتالت الغيوم على الشمس، يثور البحر و يزمجر بحثاً عنها، يناجيها ألا تتركه وحيداً.

غروبٌ واحدٌ تمنى أن يحضره، حتى و هو بعيد عن النيل، سيكون أعظم يوم في حياته، يوم باركه الله، و جعل غروب شمسه إذن منه بقبول عباده في رحمته و رضوانه، في أقدس الأماكن على الأرض، تتهافت القلوب بالخشوع، و تناجي ربها بالدعاء، غروب يوم عرفة.

- الغروب في كل مكان واحد، لكن الناس هي اللي بتشوفه مختلف..






محمد طاهر أمين

٢٠١٠/١١/٢٢

ثرثرة تحت المطر


الفارس الملثم.. هو الاسم الذي انتقاه له في هذا العالم..عالم الكلمات..

كان محمد شخصًا غريبًا.. تسعد بصحبته و لا تملها أبدًا.. كنت ارتاح في الحديث معه.. كان بمثابة الأخ الذي لم أحظ به يومًا.. كان يعرف أسراري كلها و لا أعرف أسراره.. أعتقد أن هذا حاله مع كل أصحابه.. لم أعرفهم يومًا.. لكنهم موجودين.. كان يتحاشى الحديث عن حياته.. كأنها لم تكن موجودة.. مرض مزمن.. هكذا كان يعلق دائمًا..

لم أضغط عليه كثيرًا.. كنت أنانيًا حينها.. كنت أرتاح لمجرد وجوده الدائم.. نادرًا ما تجد صديقًا يتقبل شكواك في أي وقت بدون ضجر أو شكوى.. كم أفتقد تلك الأيام..

تعرفنا في أحد المنتديات الأدبية.. في عامي الدراسي الأول.. كانت كتابته و آراءه ملهمة للجميع.. في العام الثاني.. كان انشغالي سببًا لانقطاعي عن المنتدى.. أما فقد بدأ مدونته الخاصة.. و ترك خلافات المنتدى وراءه.. و دعاني لأكثر من مرة لأبدأ مدونتي.. و قد كان.. و دائمًا كان صاحب التعليق الأول..

بدأت بعرض بعض ما كتبت في جامعتي.. و كان أسهل حينها أن اعرضها على أصدقائي.. و بدأت كتابتها أيضًا على Facebook .. ذلك الموقع أحدث ثورة رائعة في التواصل.. و قد حاولت إقناعه مرات عديدة بالانضمام لتلك الشبكة.. لكنه وجدها صعبة و غريبة.. و في عامي الدراسي الثالث.. انقطعت أنا تمامًا.. و انقطعت أخباره كذلك..

في العام الماضي.. أرسلت له أكثر من رسالة.. و لم يأتني الرد.. و كذلك مدونة كانت متوقفة منذ 6 أشهر.. بحثت عن أخباره في مدونة أخرى كان أحد كتابها.. و فعلاً.. قرأت نعيه و أنا مذهول.. لم أتوقع غيابه لهذا السبب.. كان يغيب من فترة لأخرى بداعي المرض.. لكنه هذه المرة تغيب للأبد.. توفاه الله في شتاء 2009.. رحمة الله عليه..

===================

"طالما تمنيت و أنا طفل صغير أن امكث طويلا تحت المطر فتتبلل ملابسي بينما أنا افتح فمي فتتسرب قطرات المطر إلى أعماقي وتمتزج مع روحي .. طالما شعرت أن للمطر رائحة وان لقطراته نبض و إحساس فهي مثلنا ترتعش من الفرحة أو من الحزن بعد أن تلثمها نسمات الهواء الباردة القبلة الأخيرة.."

هو من أكبر عُشاق المطر.. خيالته، أفكاره، قصصه، كلها تدور حول المطر..

أتمنى أن تزوروا مدونته.. و تتعرفوا على كلماته بأنفسكم.. و لكن لا تتركوا تعليقًا.. و لا تنتظروا ردًا..


و قد اخترت لكم بعضًا منها..

==================
قصص من سطر واحد

فكرة بدأها على المنتدى، و نقلها معه

=================

قصاصات ورق منسية

خواطر لم تكتمل !!

=================

ما قبل الرحيل - خاطرة
 


=================

بيت على البر - قصة

مستوحاة من قصة حقيقية

=================

نبض قلبي - قصة
 

هي من أحلى ما قرأته، و أتمنى أن تقرؤوا هذه القصة فعلاً

=================

جبال من جليد - قصة
 


=================

قلوب تطلب الغفران - قصة

و هذه كانت آخر ما قرأت له

=================
آخر ما كتبه.. كان تهنئة بعيد الأضحى المبارك.. منذ عامين مضوا.. 

ربنا يتغمدك برحمته و يجمعنا بيك في دار الآخرة..





محمد طاهر أمين

بداية التدوين


كم كنت متحمسًا لأبدأ التدوين من جديد، كثير من الأفكار و الكتابات راودت فكري أكثر من مرة عما سأبدأ به مدونتي، لكن الأمر لم يكن بالسهولة التي توقعتها.

بدا انعزالي عن هذا العالم كل هذه الفترة؛ كمهاجر منذ أمد بعيد عاد لمدينته يومًا، ليجد الدار غير الدار، و كأنه قد وُلد في عالم جديد، قد يبدو كلامي غريبًا لكم، سنة و نصف -أو أكثر- جعلت هذا العالم مختلفًا جدًا بالنسبة لي.

هكذا لم أبدأ التدوين مباشرة، بل بدأت بتصفح المدونات، و أخفيت مدونتي عن الأنظار، و أنا دائم التفكير؛ هل أنا مستعد فعلاً لهذا، خاصة و أن تجربتي الأولى لم تكن كما أردتها...

ربما تكون البداية الأنسب لهذه اللحظة، أن أروي عن مدونتي السابقة... و خبرتي القليلة في التدوين !!!

من 4 أعوام مضت، كانت كل كتاباتي مقتصرة في أحد المنتديات الأدبية، و إن كانت قليلة، لكني اكتسبت خبرة جيدة من تواجدي الدائم، كانت دراستي مازلت باهتة الملامح، و وجدتني اندمج مع ذلك العالم. تعرفت بصديقي محمد "الفارس الملثم" في هذا المنتدى، و كان له عظيم الأثر في ان اكتشف ما هو وراء حدود كتاباتي.

مر عامي الجامعي الأول، و بدا لي معنى كلمة "أحلام"، و كذلك علمت معنى"لكل مجتهد نصيب"، و كان العام الثاني مختلفًا تمامًا، عن سابقه لم انقطع عن الكتابة، و لكن مشاركتي في المنتدى اصبحت منعدمة.

في هذا العام، كانت أول مدونة قرأتها "ثرثرة تحت المطر"، و كان إلحاح محمد كبيرًا لكي أبدأ مدونتي الخاصة كبيرًا، و خضت تجربتي الأولى "كتاباتي..محمد أمين"، نقلت معظم كتباتي من المنتدى، مع خاطرة او قصة من فترة لأخرى.

في العام الثالث، تطلبت الدراسة انقطاعًا كاملاً، و لعل هذا العام كانت فرصتي الوحيدة لأدرك جوانب نفسي و اتعرفها من جديد، توقفت المدونة تماما منذ ذلك الحين.

في العام الرابع، ذات مرة دخلت اتطلع أخبار "ثرثرة تحت المطر"، و يبدو أن تلك المدونة توقفت أيضًا، و لكن الأغرب؛ كان انقطاع أخبار صاحبها -على غير عادته-، و أخيرًا وجدت إجابة لم اتوقعها.

مازالت ذكرى ذلك اليوم الذي قرأت فيه النعي عالقة معي، لم اتخيل رحيله عن عالمنا، و أن اعرف ذلك بعدها بأكثر من عام.

كان ذلك هو أيضًا نفس اليوم الذي قررت أن أبدأ التدوين من جديد، لكن هذه المرة وحيدًا في الطريق.

سأبدأ التدوين هنا من جديد، و ستكون ذكراك يا صديقي هي دليلي و سبيلي.

"مهاجر من قفص الوحدة" هو لقبي في المنتدى... و اليوم هو عيد ميلادي و كذلك مدونتي...



محمد طاهر أمين