مع كل صباح، كانت تنبعث منه رائحة البُن الزكية، يُحمل مع كوب ماء إلى الشرفة الكبير بجوار الجرائد و النظارة. كان مخصصاً فقط لسيد القصر، يقضي بقية اليوم متوجاً مع باقي الفضيات، بعيداً عن عامة الفناجين، يحضر الاجتماعات نهاراً، و يتلألأ في أعين الأميرات مساءاً. تمضي الأيام، و يغادر القصر كما غادره أصحابه، و تناقلته الأيدي كهدية رخيصة، حتى وصل لصاحبه الجديد.
كانت المكتبة هي بيته الجديد، لم يرَ غيرها في هذا المنزل. كان صاحبه محباً للقراءة و كان من أكبر الكتاب، كان معظم يومه في مكتبه، يطالع معه الكتب، و يتعلم منه الكثير من حكم الزمان. لم يتباهى به أمام زواره القلائل، و كانت له جارة، مسبحة من الفضة أيضاً. و كما تعلم من الكتب و من الحياة، "دوام الحال من المحال"، بعد وفاة صاحبه، لم يرى ابنه الوحيد في تلك الجدران، سوى مبلغ من المال و كومة من الورق.
يبدو أنه يحتاج للتقاعد الآن. هكذا كان يشعر و هو معروض في الرف العلوي أفخم مقاهي البلدة. كان بمثابة الحكيم للفناجين الأخرى، فهو الأقدم هنا و كذلك الأغلى. لكنه لم يعتد هذه الضوضاء، و تلك النظرات المندهشة من قِدمه و تاريخه القديم. كل هذا لم يشفع له أن يتركه هذا الشاب المريب في شأنه، و قرر أن يسرقه ليلاً ليبادله بما "يكيّفه" أكثر من أي بُن في العالم.
لم يعد يرى غير الأقدام، في كل يوم يفترش مالكه الأرض ببضاعته، ما بين لوح خشبية و بعض الفضيات و كثير من الأدوات الزهيدة. كلها تركها الزمان لتختفي هنا، بين صخب النهار، و دخان السجائر، و نكهة العطارين، و بهجة السياح، هنا في أزقة "خان الخليلي". أصبح التراب هو محتواه بدلاً من البُن، و الشارع مسكنه بدلاً من القصر.
محمد طاهر أمين