في أواخر الخريف، تتلاعب نسمات باردة بأوراق الشجر من حولي، و كأنها تغازل البحيرة، التي تستقبل الشتاء كل عام -و أنا كذلك- بملل شديد، كضيف غير مرغوب فيه.. مع أيامه الأولى تهاجر الطيور، ثم تختفي الحيوانات في بيات شتوي، و يغيب البشر بالتدريج، ربما أتى بعضهم في رأس السنة.. لكن الشتاء يبقى باردًا هنا، و ينفث صقيعه سمًا في كل ما حوله..
 |
لكن الشتاء يبقى باردًا هنا، و ينفث صقيعه سمًا في كل ما حوله |
معظم المستأجرين من العشاق، شبابًا و شيبةً، أيام جميلة لهذين، ذكرى زواج رائعة، إجازة قصيرة و راحة من الأعمال.. في داخلي سحر خاص، يسترق الأحباب منه جمال أيامهم، و استمد سحري من خيالاتهم، يتوهمون قصصًا عن صاحبي.. هل هو مجرد مهندس، من أين أتى بذلك المكان الشاعري، محظوظة من أهداها ذلك البيت..
لا تتعجبوا من قصتي، ربما كانت لمحًا من الخيال، لكنها حقيقة، عشتها أنا، كما عاشها أصحابها.. لن أبخل عليكم، سأسردها لكم، لكن لا تلمني إن لم تستوعب أن مكانًا كهذا يحتضن أسرارًا غريبة كالتي ستقرأها..
منذ عشرة أعوام، لم يكن يمر بالبحيرة سوى بعضًا من البشر في المنتزه المقابل، في بداية الربيع حيث تتحول ضفاف البحيرة إلى جنة خضراء تسحر كل من يمر بجوارها.. لم أكن هنا بعد، بقيت تلك البقعة المرتفعة، تحجبها الأشجار و كأنها تحتضن كنزًا تخفيه عن أعين البشر الطامعة، تنتظر قلوبًا طاهرة لتشاركها هذا الكنز..
مع تعاقب الخريف و الشتاء، تمر السنين، كبر المنتزه و زاد رواده، مع ذلك احتفظت الأشجار بسرها، حتى ساقت لها الأقدار تلك القلوب الطاهرة التي تبحث عنها.. كانا في متقبل العمر، تغرد طيور الحب من حولهما، نفضت الأشجار عن سرها.. تعلقا بهذا المكان، و تعلق المكان بحبهما، حتى قررا أن يكوِّنا عش الزوجية على تلك التلة النضرة.. هو مهندس، فاستوحى من الطبيعة، بيتًا صغيرًا، مدخله على التلة، و واجهته في أحضان البحيرة، رسم فكرته بقلم رصاص، فكانت أبهى لوحة.. لم تكن هي أقل حظًا منه في مشاركته أفكاره، فلونت لوحته، و رسمت تصاميمه الداخلية.. و هكذا وُلدت أن في أوراقهما..
في أوائل الربيع قمت أنا بين أحضان الأشجار، أطالع البحيرة، بيت خشبي صغير، كجوهرة احتضنتني الطبيعة بين أحضانها، لم تتملل وجودي و لم يؤرقها جبروت البشر عليها..
 |
قررا الزواج، رغم أن البيت لم يكتمل، و نشأت أنا بين قلبيهما |
قررا الزواج، رغم أن البيت لم يكتمل، و نشأت أنا بين قلبيهما.. فكنت كالطفل، أرضع من حبهما لأنمو، ازداد كل يوم بهاءً بلمساتهما.. تخيل خشبًا أصبح جزءًا من روحهما، في كل ركن قصة و حكاية، في كل يوم تُزرع ذكرى أخرى في جنباتي، هل تدرك الآن من أين جاء سحري؟؟
تتساءل الآن بخباثة، أين ذهبوا، أين هم هذان العاشقان.. دائمًا ما كانت طبيعتكم -أيها البشر- أن لا تكتفوا من السؤال، حتى و إن لم تعجبكم الإجابة، تفضلون أن ترسموا القصص و الأساطير على أن يبقى السؤال بلا إجابة..
لابد لكل قصة من نهاية.. نهاية قصتهما كانت الفراق.. لم يتحمل جسدها الضعيف سرطان الدم طويلًا، فضلت أن تستسلم لقدرها سريعًا، و لعل هناك حكمة أن تنتهي معاناتها دون أن تترك مزيدًا من الآلام له.. لم يتحمل الفراق، ربما لم يصدقه حتى الآن.. قرر أن يهاجر بعيدًا عن هذا المكان، فلم يكن له هنا سوى الآلام، لم يكن ينوي أن يأجره، فهذا عالمهم الخاص، لكنه رضخ لضغوط الحياة.. و احتفظ لنفسه بيوم واحد في السنة، ذكرى زفافهما، يأتي مرة كل عام، يطالع السماء و النجوم.. يحتضن أوراق البيت، كيف كان الحلم رصاصًا، تلونت اللوحات، ثم ظهرت على الحقيقة، كيف كانت الذكريات تجمعهما.. يوم واحد يعيش من أجله بقية العام..
ألم أقل لك؟؟ لا تتعجب، ربما يكون كلامي أسطورة أو خرافة، لكنك أنت من تبحث عن إجابة لا أنا..
محمد طاهر أمين